نزيهة سليم.. قبل الرحيل.من أراجيح الطفولة..حتى أوجاع العزلة

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
07/03/2008 06:00 AM
GMT



 كانت لمسة الوفاء التي أحياها احد نقاد الفن في كلمة له على احدى الصحف في آب / 2003، قد وخزت فضولي الذي تدحرج من أعلى قمة الجبل وصار مثل كرة ثلج في منحدر طريقها إلى الوادي "لتكون فيلماً وثائقياً قمت بالكتابة والاعداد والتعليق عليه، والتواجد في دقائقه العشرين متجشماً عناء الذهاب إلى منزل عزلتها في البيت الذي أغمض فيه الموت آخر خفقات قلبها، وحيدة هناك في الوزيرية بعد أن رأت النور فيه "نزيهة" آخر عنقود في عريشة الحاج محمد سليم الموصلي الأب الذي عرف بقدرته على الرسم وله لوحة صغيرة رسم فيها سراي بغداد عام 1910 تدل - كما يقول الناقد الراحل جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة كتابه (جواد سليم ونصب الحرية - على براعته في المنظور وحساسيته للون واقتصاده الموفق له، وكان له ولولديه سعاد وجواد يد طولى في تأسيس أول جمعية فنية في العراق "جمعية أصدقاء الفن" عام 1941 ونزار سليم ونزيهة، أخو جواد وأخته الأصغران كلاهما رسام معروف، فضلاً عن أخيه الاكبر سعاد.

 لم أذهب وحدي إلى منزلها الذي كان يجب ان يكون متحفاً لـ (جواد) واعماله كما ذكرت ذلك في نهاية ذلك الفيلم الذي حمل عنوان "نزيهة سليم.. من فيوضات الطفولة إلى اوجاع الشيخوخة" وانا أقف أمام عدسة المصوّر (فاضل العقابي) في حديقة عابسة، يابسة، من فرط الاهمال وطغيان الوحدة وبقايا أصيص زرعت فيه الفنانة الكبيرة نزيهة مجموعة من فرش الرسم سهواً - ربما - أو تعويضاً لا شعورياً لمعنى دالٍ ومؤثر وحقيقي أنهى به المخرج "وديع نادر" ذلك الفيلم الذي أنتجته رائعة ومشكورة (قناة كردسات الفضائية)، احياء وعرفاناً لهذه الفنانة الرائدة، حين تم عرضه في ايلول عام 2003 ليكون وثيقة غارقة بالصدق والتذكير بها على نحو أحيا مجدداً جدارة فعلها وأهمية دورها حين استطاعت ان تواكب الحركة التشكيلية في العراق. منذ بداياتها حيث تخرجت في معهد الفنون الجميلة / بغداد، ثم انهت بعد ذلك دراستها العليا في "البوزار" باريس (1951) فضلاً عن نشاطها التدريسي والتربوي كاستاذة وفاعلة في معرض جماعة بغداد للفن الحديث، ولتواكب الدراسة في ايطاليا وتكون زميلة للفنان الكبير سعد الطائي الذي أشاد بدورها وروحها وصدق عمقها الداخلي وفهمها للبيئة العراقية عبر لقائنا به في ذلك الفيلم مع بعض طلابها الخزاف ماهر السامرائي ود. أياد الحسيني والنحات عبد الكريم خليل الذي رافق رحلة الذهاب إلى عزلتها في المرة الأولى من أجل الإعداد لشريط الفيلم وهو يحكي بالصور القديمة - الوثيقة جوانب من حياتها النابضة والطرّية. حيث استغرق منا عدة ايام ليست سهلة على الإطلاق لاسباب رافقت انجازه على هذا القدر من العفوية والبساطة بل حتى الشاعرية، وان كانت مؤلمة وحزينة - والتي كانت توازي اعمالها الفنية بقدرة استعمالها تقنيات وافكاراً لمواضيع انسانية بخالص وعي تعبيري رفيع يليق بحجم سمعتها وتأثيرها وتأثرها بمدرسة بغداد على من تلا جيل ما بعد الروّاد. ها قد مضت أربع سنوات وعدة أشهر على مجسات تلك اللمسة الوفية التي لامست جوانب وذكريات من حياة إحدى رائدات الابداع. كان قد لوّح لها الزمن بذاكرة ناقد وكاتب ووثقّت لها العدسة ونبض الكلمات حين أندلعت تواكب خطوات "نزيهة سليم" في عرين عزلتها وغموض ما ينتظرها بسبب العزلة والمرض والوحدة. فالإنسان كما يقول أحد الفلاسفة "هو الكائن الوحيد الذي يستشعر الوحدة، وهو الوحيد الذي يمضي حياته في بحثٍ عن الآخر". فاي آخر كانت تبحث عنه "نزيهة" غير الرسم وهو يغيّر حياتها هكذا إلى جانب مثال "نصب الحرية" بهامشٍ هو الآخر يداني البحث عن الخلود - فالمزيد من الزمن حتماً لا يعني المزيد من الخلود.. ما دام الهم الحقيقي بقلقه المجدي والابداع يرسمان خطاً موازياً للحياة وعلى مقياسها، لان على الحياة ان تمضي، والحياة هي نحن...

هل لنا بعد حزن حكاية إنجاز ذلك الفيلم، قبل رحيل الفنانة "نزيهة سليم" بشريط آخر لفيلم بعد الرحيل نستكمل فيه جوانب وإطلالات من لوامع ما أرسى رواد التأسيس، هكذا على سجية همهم وفهمهم وحسن نيات تطلعاتهم نحو فهم أكيد لحاضر الفن وماضيه القريب؟! أم ان نبقى طائعين لمرامي ومقدرات الصدفة، التي أخذت بنا نحو مرافئ وتخوم ما أنجزت هذه الفنانة الكبيرة وجئنا اليوم نكتب رثاءً لها ولكن بصيغة التذكير بمنجزها وأهمية فعلها الفني والإنساني.